تحليل مفهوم الصداقة بين الجنسين وتطوره

كيف يختلف مفهوم الصداقة عندما تكون بين جنسين مختلفين؟ وكيف ينظر المجتمع إلى صداقة الرجل والمرأة؟ وما هي مميزات الصداقة بين الجنسين وعيوبها؟ ثم هل الصداقة بين الجنسين ممكنة أم مجرد خيال وخداع للذات؟ وما هو حكم الإسلام في قضية الصداقة بين الجنسين؟
تحليل مفهوم الصداقة بين الجنسين وتطوره
تابعوا موقع حلوها على منصة اخبار جوجل لقراءة أحدث المقالات

في زحمة الحياة الحديثة لم تتغير فقط أساليب الإنتاج والصناعة، ولم تتغير فقط وسائط النقل والاتصال، بل تغيرت قواعد العلاقات الاجتماعية كاستجابة للانقلاب الكبير الذي حصل في القرنين الأخيرين.
وقد تكون قضية العلاقات بين الجنسين من أكثر القضايا الاجتماعية سخونة، فمفهوم الصداقة بين الرجل والمرأة الذي فرض نفسه على المجتمع الحديث ما زال حتَّى الآن نقطة صراعٍ محموم، بين دعاة المساواة بين الجنسين والحركات النسوية، وبين الرأي الديني الصارم، وبين العلوم الإنسانية التي تحاول أن تقرأ ما وراء السطور في العلاقات غير الرومانسية بين الجنسين.
فهل الصداقة البريئة بين الجنسين ممكنة؟ أم أن الصداقة بين الرجل والمرأة قناع لعلاقة عاطفية وانجذاب جنسي مهذب أو بالأحرى لم يجد فرصة ليكون غير ذلك؟!، وما هو تاريخ تطور الصداقة بين الجنسين؟ هل ظهرت فجأة؟ هل كانت الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة قبل القرن العشرين؟ وهل هي ممكنة اليوم؟.
 

animate

محتويات المقال (انقر للانتقال):

1- تاريخ الصداقة بين الجنسين
2- كيف ظهرت الصداقة بين الجنسين؟
3- الرجال لا يفهمون الصداقة!
4- فوائد وسلبيات الصداقة بين الجنسين
5- حكم الصداقة بين الجنسين في الإسلام
6- المصادر والمراجع


تاريخ الصداقة بين الجنسين

لا يمكن تتبع ظهور مفهوم الصداقة بين الجنسين بسهولة، فما وصلنا من التراث المكتوب والشفهي على شكل قصص أو روايات وحكايات شعبية وما كتبه المؤرخون؛ كان يركِّز بشكل أساسي على علاقات الحب والزواج والعلاقات الجنسية، أو حتى الصراعات السياسية بين الجنسين والتي لم تخلو من الجوانب العاطفية، لكن لم نرَ في حدود معرفتنا ما يشير إلى وجود مفهوم الصداقة بين الجنسين قبل القرن العشرين.
حتى عند الفلاسفة الأوائل، وخاصة أرسطو الذي تحدث عن الصداقة بمفهومها الواسع، وتحدث أيضاً عن العلاقة الزوجية وعمَّا يمكن أن يجمع الرجل والمرأة، لكنه لم يجد ما يجمع المرأة الرجل تحت مسمى الصداقة دون زواج.

لماذا لم تكن الصداقة بين الجنسين ممكنة؟
في البداية لا بد أن نفكر بسبب رفض مبدأ الصداقة بين الجنسين على مدى التاريخ البشري المعلوم وبشكل مستمر تقريباً حتى القرن العشرين.
الفروق الواسعة والهائلة بين الأدوار الاجتماعية للجنسين، إلى جانب جمود هذه الفروق بمعنى أن المرأة اتخذت محلها كزوجة وأم وراعية للمنزل وشريكة في السرير دون أن تطرأ تغيرات كبيرة على هذا الدور، فيما اتخذ الرجل دوره كمسؤول عن الحماية والإطعام والرزق والحكم والسلطة دون أن يطرأ تغير كبير على هذه الأدوار، إضافة إلى الاعتقاد الراسخ بقوامة الرجل على المرأة، وعدم قدرة المرأة على استيعاب الرجل كصديق![1].
وكان الاعتقاد الأكثر رسوخاً أن الرجل والمرأة لا يمكن أن يجمعهما شيء إلّا الجنس، ليس فقط لأن الرجل شهواني بطبيعته والمرأة لعوب بطبيعتها، إنما لأن نقطة الالتقاء الوحيدة التي تناسب الرجل مع المرأة هي السرير، ما عدا ذلك سيشعر رجل ذلك الزمان أنه يهين نفسه بصداقة المرأة أو الرضوخ لسلطتها، وهذا يفسر النهايات المأسوية للملكات النساء مثل كليوباترا وزنوبيا وغيرهن، والمفارقة أنهن جميعاً دعين للسرير كسبيل لاستعادة السلطة الذكورية قبل أن يتم القضاء عليهن.


كيف ظهرت الصداقة بين الجنسين؟

عندما كان استقرار الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة وسيادة الذكور على الإناث الكاملة والمستقرة هي السمة العامة لمعظم المجتمعات البشرية؛ فإن تغيّر هذا الواقع انطلاقاً من الحرب العالمية الأولى والثورة الصناعية كان كفيلاً بخلق نوع جديد من العلاقات بين الرجال والنساء، ولعبت الحركة النسوية حول العالم دوراً كبيراً في الدفاع عن حق المرأة بعلاقات عادية وطبيعية وغير جنسية من طرفها على الأقل.
فانخراط المرأة في سوق العمل بشكل أوسع، وازدياد فرص المرأة باختيار الوسط الاجتماعي الذي يناسبها، وخضوع الرجال خاصة في المجتمعات المتقدمة للحقيقة التي تقول أن المرأة لم تعد سلعة للمتعة ما لم تختر هي ذلك، وانتقال التحليل الفلسفي والاجتماعي للفروق بين الرجال والنساء إلى المخابر وشاشات فحص كهرباء الدماغ ليكون بحثاً علمياً غير متحيز؛ كل ذلك أدى إلى ظهور نمط جديد من العلاقة بين الرجال والنساء هو علاقة الصداقة، الصداقة التي يفترض بها أن تكون منفصلة تماماً عن التفكير الجنسي عند الطرفين، وأقرب أن تكون صداقة طبيعية بين جنسين متماثلين.

لكن... لا بد أن نفهم أن ظهور الصداقة بين الرجل والمرأة في العصر الحديث على الرغم من غياب هذا المفهوم على مر الزمان لا يعدو كونه استجابة اجتماعية تطورية لمعطيات جديدة، فمفهوم الصداقة والزمالة بين الجنسين فرض نفسه على المجتمع البشري نتيجة تطور أسلوب المعاش وتطور القوانين التي تحكم المجتمع.
وإن لم يكن التشبيه حكيماً؛ لكن التطور الذي شهده المجتمع البشري في مفهوم الصداقة بين الرجل والمرأة يشبه إلى حد بعيد تطور التعامل مع ذوي البشرة الداكنة والسوداء في المجتمع الأمريكي، وفك نير العبودية عنهم بقوة القانون وإجبار البيض على التعامل معهم بطريقة أكثر إنسانية...
فكما أن اندماج أصحاب البشرة الداكنة والسوداء في المجتمع وخروجهم من العبودية لم يؤدِ إلى القضاء على العنصرية عند الأفراد وإنما أجبرهم على كبت السلوك العنصري انصياعاً للمصالح وللقانون؛ كذلك لم تستطع الحركة النسوية القضاء على النظرة الدونية والجنسية للمرأة عند الأفراد وإن أجبرتهم على احترام المرأة ورسخت مبدأ الزمالة والصداقة لمساعدة المرأة على القيام بأدوار اجتماعية جديدة، وهذا ما سنناقشه في الفقرة القادمة.

معنى ذلك أن وجود نوع جديد من المصالح الشخصية والعامة التي يتطلب القيام بها تعامل الذكور مع النساء خارج إطار العلاقات العاطفية والجنسية مهما كان شكلها أو نوعها؛ هو فعلياً ما دعم مفهوم الصداقة بين الجنسين في العقود القليلة الفائتة، لكن هل يفهم الذكور الصداقة بين الجنسين كما تفهمها الإناث؟.


الرجال لا يفهمون الصداقة!

في سلسلة من الدراسات حول الصداقة بين الجنسين أظهرت النتائج أن الرجال أكثر ميلاً إلى وصف الصديقة المرأة كشخص جذاب جنسياً أو شريك جنسي محتمل، فيما حافظت النساء أكثر على الصداقة المنفصلة عن مفهوم الجنس أو العلاقات الرومانسية[2].
هذا يقودنا أولاً إلى استنتاج أولي أن الرجال لا يفهمون حتى الآن الصداقة بين الجنسين كعلاقة منفصلة عن الإعجاب أو الانجذاب الجنسي، حتى لو لم ينجرف الصديق الرجل نحو المغازلة أو التحرش أو الدعوة الوقحة إلى السرير، لكنه داخلياً ما زال ينظر إلى المرأة بشكل جنسي، فيما تكون المرأة أكثر تفهّماً لعلاقة الصداقة مع غير جنسها دون أن تفكر تفكيراً جنسياً بالضرورة.
وإذا أردنا أن نفسِّر هذه الحالة يمكن أن نعود إلى الأسباب التي جعلت من الصداقة بين الجنسين غير موجودة على مدى العصور الفائتة، فالرجل ما زال يحمل رواسب تلك الفترة داخله، وما زال بشكل أو بآخر ينظر إلى عوامل الجذب الجنسية في المرأة قبل كل شيء، الجمال والجسد والجاذبية والصوت المفاتن...إلخ.
وأمَّا المرأة التي تعتبر أن الصداقة العادية بينها وبين الرجل هي مطلب مهم في سبيل إثبات وجودها الاجتماعي المستقل، فهي تسعى أكثر إلى الفصل بين المشاعر الجنسية والعاطفية من جهة وعلاقة الصداقة الودية مع الرجال من جهة أخرى، فالمرأة تريد الصداقة فقط، والرجل يريد كل ما هو متاح أكثر.


فوائد وسلبيات الصداقة بين الجنسين

مهما يكن الأمر فإن الزمالة والصداقة بين الجنسين أصبحت جزءاً واقعياً من العلاقات الاجتماعية في الجامعات والعمل والحياة العامة، ولم يعد من الممكن العودة خطوة للوراء أو إعادة الفصل بين الجنسين بشكل كامل ووضعهما معاً في إطار جنسي صرف.
وسيبقى الصراع قائماً بين مؤيد ومعارض لمبدأ الصداقة بين الجنسين، وبين من يعتبر الصداقة بين الجنسين علاقة إنسانية نقية، أو من يعتبرها درجة من درجات الزنا.

ومن هنا يمكن رصد بعض المميزات والعيوب للصداقة بين الجنسين بعيداً عن تشجيعها أو إنكارها[3].

- حيث يبدو أن الصداقة بين الجنسيين في علاقة غير رومانسية تساعد على فهم الجنس الآخر أكثر، وتعزز الرضا الاجتماعي والشعور باحترام الذات.

- وقد تعتبر الصداقة بين الجنسين مريحة أكثر بسبب وجود شعور العداوة بين أبناء الجنس الواحد لأنهما يسعيان إلى الأشياء نفسها، فيما تغيب هذه المنافسة في الصداقة بين الجنسين وتتحول إلى تبادل خبرات يستفيد منه الطرفان في تحقيق ذاتهما فيما يتعلق بالنوع، وهذا ما يجعل مستشار العلاقات العاطفية الشخصي من جنس مغاير أكثر فاعلية، لأنه يتحدث من وجهة نظر الجنس الآخر.

- ويعتقد الرجال أن وجودهم مع صديقة جذابة جنسياً مكسب، فيما تعتقد النساء أن عيباً من عيوب الصداقة مع الرجال انخفاض قدرتهم على إدراك الصداقة الأفلاطونية والالتزام بها، وهذه المعضلة جعلت الرجال يشعرون أكثر بمرارة الرفض عندما تتمسك المرأة بمنطقة الصداقة.

- كما سجلت النساء مكاسب أعلى من صداقات الرجل من حيث التكاليف المالية للصداقة كدفع تكاليف العشاء أو حتى المواصلات، واستفادت النساء أكثر من علاقات الرجال العامة في تطوير أنفسهن، ذلك ببساطة أن الرجل حتى مع صديقته ما زال متمسكاً بمبدأ الحماية وأنه مسؤول تجاه المرأة عن تغطيتها وحمايتها.

- وتعتقد النساء أنه من عيوب الصداقة مع الرجال هو إعاقتهن عن إنشاء علاقات رومانسية مستقرة عندما يردن ذلك، إما لأن الصديق الذكر يحاول عرقلة هذه العلاقات في صراع على الأنثى، وإما أن الشخص المحتمل كطرف في علاقة رومانسية لا يدرك براءة الصداقة من جهة المرأة على الأقل. 

- المفارقة أن رؤية الرجال والنساء للفوائد والسلبيات من علاقة الصداقة بين الجنسين تبدو متناقضة، فكل ما يراه الرجل إيجابياً في الصداقة مع المرأة تراه هي جانباً سلبياً، والعكس صحيح.

- ستختلف هذه الفوائد والسلبيات بطبيعة الحال من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، وربما نضيف عليها أن الصداقة في الجنس الواحد تكون أكثر قوة بمواجهة التغيرات التي تطرأ على حياة كل منهما، فيما تكون الصداقة بين الجنسين قابلة للانهيار بسرعة أكبر نتيجة وجود شريك عاطفي لأحد الصديقين مثلاً.

- إن كل الدراسات السابقة التي أثبتت ميل الرجل إلى النظرة الجنسية أكثر من المرأة في علاقات الصداقة لا تنفي وجود نساء لهن تطلعات جنسية من الصداقة، ولا تنفي وجود رجال ينظرون إلى الصداقة بين الجنسين نظرة بريئة، لكن النتائج كانت ترصد حال الأغلبية ما يجعلها جديرة بالتعميم.


حكم الصداقة بين الجنسين في الإسلام

في البداية لا بد أن ننوه إلى أن تناولنا لقضية الصداقة بين الجنسين كان الهدف منه تحليل هذه الظاهرة وتوضيح تطورها في ضوء علم النفس وعلم الاجتماع، وقد تنهار الكثير من الفرضيات والنظريات العامة عندما نتكلم عن نفس القضية في بيئة محددة ومجتمع معين.
فإذا طالعنا وجهة النظر الإسلامية حول قضية الاختلاط بين الذكور والإناث أو الصداقة بين الرجل والمرأة؛ سنجد أن كل اختلاط بين ذكر وأنثى ما لم يكونا على صلة المحرمين على بعضهما كالابن وأمه والأخ وأخته، أو أن يجمع بينهما زواج شرعي، فإن هذا الاختلاط مرفوض منكرٌ ومحرَّم.
وللاختلاط في الإسلام في غير الحالات المشروعة أعلاه ضوابط شرعية بيّنها أهل العلم في ضوء القرآن الكريم والسنة، أبرزها أن يأمن الطرفان الفتنة وأن تكون المرأة محتشمة وأن يكونا غاضين للبصر، ممتنعين عن كل ما يثير الفتنة، وألا تقع بينهما الخلوة، وأن يكون لاجتماعهما سبب مشروع ومصلحة مشروعة[4].

أخيراً... الصداقة بين الجنسين كما ذكرنا كانت استجابة اجتماعية للمعايير الجديدة التي تحدد دور المرأة الاجتماعي وعلاقتها بالرجل، حيث فرض وجود المرأة في الجامعات والعمل والحياة العامة وجود علاقة غير جنسية وغير رومانسية بصورتها العامة بغض النظر عمَّا يدور في النفوس، وأما قبول أو رفض هذه الصداقة فهو أمر يتعلق بثقافة الفرد وقناعته وإيمانه وغيرها من العوامل.
وقد تكون الحالة الأكثر غرابة هي أن نسمع نقاشاً بين صديقين من جنسين مختلفين يرفض أحدهما الصداقة بين الجنسين ويعترها عاراً وعيباً!، هذا الصراع العميق بين ما هو موجود وبين ما نعتقد أنه يجب أن يكون، أي بين أحكام الوجوب وأحكام الوجود.


المصادر والمراجع:

[1] مقال.للكاتبة جولييت لابيدوس بعنوان "لا شيء يجمعهما كصديقين... قبل القرن العشرين كانت الصداقة أحادية الجنس"، منشور على موقع slate، تمت مراجعته في 28/5/2019.
[2] مقال.Drake Baer حول نتائج الدراسات التي أجرتها Dr. April Bleske-Rechek من جامعة ويسكونسن لاختبار الصداقة بين الجنسين، منشور في موقع Thecut، تمت مراجعته في 28/5/2019.
[3] مقال.للدكتور جيرمي نيكلسون Jeremy Nicholson "هل يمكن أن يكون الرجل والمرأة مجرد أصدقاء؟!"، منشور في موقع psychology today، تمت مراجعته في 28/5/2019.
[4] فتوى.إسلام ويب رقم 8890 حول اختلاط الطلاب بالطالبات في الجامعة، منشورة على موقع islamweb، تمت مراجعته في 28/5/2019.